الجنس : عدد المساهمات : 133 نقاط : 373 السٌّمعَة : 3 تاريخ التسجيل : 09/07/2010
موضوع: قبساتٌ من نورِ النبوّة الأربعاء أكتوبر 27, 2010 3:16 pm
أمرنا الله - جل وعلا - أن ندعو الناس إلى سبيله القويم، وطريقه المستقيم بالحكمة، والحكمة تعني أن يحاول الإنسان - ما استطاع - ليضع الشيء في محله الملائم له، وهذه الحكمة تقتضي الداعي أو المعلم أن يعلم - قبل الدعوة - كيف يخاطب النفوس، وما هي الوسائل التي تؤثر في النفوس الإنسانية فتجعلها تقبل ما يلقى إليها باهتمام وشغف، وبذلك يكون عمله مجديا ودعوته مؤثرة، وتعليمه مثمرا. والناظر في السنة النبوية يلمح صورا واضحة للطرق القويمة في مخاطبة النفوس، وتبين له السبل التي سلكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتأثير في نفوس المخاطبين من الصحابة - رضوان الله عليهم - مما يدل على المعرفة التامة وتربيتها. وإني أحب أن أعرض شيئا من هذه الأمثلة الرائعة لتكون لنا نورا نستضئ به في الطريق الطويل الذي نسير به. من ذلك ما يعرف الآن في طرق التعليم بإثارة مشكله لإيجاد حل لها، ويكون ذلك بإلقاء سؤال يطلب من المخاطبين الجواب عليه، وإلقاء السؤال يجعل المسئولين في المشكلة ذاتها، فيبحثون عن حل مناسب، وجواب ملائم لما يعرض عليهم، فهم إذن ليسوا بعيدين يتكلمون عن شيء نظري، فها هي المشكلة أمامهم، والسؤال يحتاج إلى جواب، والجواب سيكون من واقع حياتهم، ومن تجاربهم التي يعرفونها، ثم سينتظرون الحكم النهائي والجواب القاطع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فبهذه الطريقة يضمن الداعية شيئين: 1- وضع السامعين في المشكلة ذاتها. 2- لفت انتباههم، وإثارة أذهانهم لمعرفة الوجه الحق. وهذا مما يجعل الجواب المتلقي يتلهف عليه، ويدخل إلى النفس مباشرة، فيمكث فيها دافعا إلى العمل الجاد، ومن هذه الصورة الرائعة في السيرة النبوية الحديث الوارد في السؤال عن (المفلس) ويبدو هذا السؤال سهلا ليس في الجواب عليه شدة وعناء، ولهذا سيكون جوابهم بما يعرفون ويعاينون في واقع حياتهم "المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع". هذه هي الصورة الشائعة المعروفة عندهم، قالوها بكل هدوء وتؤده، ولكن يا ترى: أليس هناك صورة أخرى للمفلس؟
لا شك في هذا الجواب إذ لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يريد هذا الجواب لما سأل لأنه يعرفه قطعا، ولذا كانت هذه النفوس متعطشة لمعرفة هذا المفلس، أو هذا المعنى الجديد للإفلاس، وسيقترن هذا المعنى الجديد بالمعنى العادي المعروف، فكلما مر المعنى الدارج فستنطلق النفس إلى المعنى الجديد، وتعلو بروحها وفكرها عن كل المعاني القديمة للإفلاس، ويثبت فيها أن المفلس هو « من يأتي بصلاة وصيام وزكاة -أي يأتي بعمل صالح - ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار ». وإذا علمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يتكلم لم يكن يسرد الحديث سردا، بل لو شاء أن يعده العاد لاستطاع، عرفنا مدى تأثير هذا في نفوس السامعين، فالسامع للسؤال جالت في نفسه صورة الإفلاس الدنيوي، وربما خطر في فكره صور متعددة لأناس قد أفلسوا ولم يبق معهم درهم، ولم يملكوا متاعا، ثم سما بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا التصور إلى صورة جديدة فيقول: « المفلس من جاء بصلاة وصيام وزكاة ». وهذا مما يدعوا إلى العجب فينبه العقول تنبيها قويا شديدا إذ كيف يكون من عمل عملا صالحا مفلسا ؟ وأصبحت النفوس مستوفزة لتمام معرفة المفلس، وعند ذلك تأتي الصورة الكاملة وأنه قد أساء إلى المجتمع بأعمال آخر... وهنا تتساءل النفوس وكيف يعد من خلط في عمله مفلسا؟ هل يا ترى أي الأعمال السيئة تبطل الأعمال الصالحة؟! فيأتي الجواب بأن الأعمال الصالحة والأعمال السيئة إنما يجري يوم القيامة بينهما القصاص، فأيهما غلب حكم به على صاحبه، وتستكمل الصورة في نفوس السامعين ويعرفون أن المفلس: (هو الذي غلبت أعماله السيئة أعماله الصالحة مما أدى إلى معاقبته بجهنم)، فإذاً تنتهي الصورة – صورة المفلس – بالألم، ألم النار، مما يدفع السامع عن كل ما يجعله من المفلسين، وسيحاول أن يكون دائما من الغانمين الرابحين.
بهذا الأسلوب الرائع البديع وصل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه النتيجة التي يريد، ولذا رأينا أعمال الصحابة توضح لنا صدق هذه النتيجة وأنهم كانوا أبعد ما يكون عن أعمال المفلس. فياليتنا نسلك هذه السبيل ونتبعها في الدعوة إلى كل ما نبغيه. وليس هذا هو المثل الوحيد في حياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، وإنما هناك أمثلة كثيرة أذكر منها على سبيل التعيين لا الحصر: حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا ». يعيد السؤال ثلاث مرات، لتكون الإثارة أتم وأكمل، وتتنبه النفوس عن كل ما يشغلها، وتتهيأ لتلقى معرفة أكبر الكبائر فيقول: « الإشراك بالله، وعقوق الوالدين » هاتان الكبيرتان اللتان يعرفهما كل مسلم لإشارة القرآن إليهما، وبعدئذ يغير أسلوب الكلام فيقول: « ألا وشهادة الزور » ولم يكتف بذلك فيكررها « وقول الزور» ثم يشرك في التنبيه السمع مع البصر « وكان متكئا فجلس ». كل ذلك لتكون النفوس متقبلة آخذه بنهم وإقبال لما تسمع فتكون النتيجة التأثير العمل المطلوب، إذ كلما كان الكلام مؤثرا في النفس كان أكثر دفعا للتطبيق. وكذا الحديث الوارد في حجة الوداع حين سألهم: « أي شهر هذا ؟! » سؤال عجيب ! رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسأل عن شهر ذي الحجة؟ وما عرف الصحابة ما يقولون، أيقولون (ذو الحجة)؟وهو يعرف ذلك! ولذا ما كان جوابهم إلا أن قالوا: « الله ورسوله أعلم. وانتظروا جميعا الاسم الجديد الذي سيطلق على هذا الشهر، وعبر الراوي عن ذلك بقوله: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. ثم قال صلى الله عليه وسلم: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. » ويكرر هذه السبيل في السؤال « أي بلد هذا؟ أي يوم هذا؟ » وهم ينتظرون بعد كل سؤال الاسم الجديد للبلد الحرام وليوم النحر، وليس هناك اسم جديد. وإنما كان ذلك ليجعلهم متهيئين ليسمعوا أحكاما عامة، أحكام المودع، أحكام تشمل حياتهم كلها، ويحرم عليهم ويحل لهم فيقول: « فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ». وهنا يبدو الهدف المقصود من السؤال عن الشهر والبلد واليوم، وذلك لأن حرمتها متقررة في النفوس، ثابتة عندهم لاشك فيها ولا ريب، فيعيد إلى الذاكرة حرمتها ليبني عليها حرمة الدماء والأموال والأعراض.. فستقترن هذه الثلاث بتلك، وتكون ثابتة كثبوت الأولى، متقررة كتقررها. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطينا مفتاح القلوب، وصمام النفوس بالسؤال، فإذا فتح القلب وتحفزت النفس للسماع، أعطى الجواب، ومنح المراد، ليستقر فيندفع صاحبها إلى العمل. فصلوات الله عليك وسلامه يا رسول الله! ماذا أقول؟ ألا أنك نبي الله بعثت للعالمين رحمة، وكنت بالمؤمنين رؤوفا رحيما. فيا ليتنا نتأسى بك، ونهتدي بهديك في الدعوة والتعليمِ.